فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

ومعنى {عُثِر} اطُّلِع وتَبيّن ذلك، وأصل فعل عَثَر أنّه مصادفة رِجْلِ الماشي جسمًا ناتئًا في الأرض لم يترقّبه ولم يَحْذر منه فيختلّ به اندفاعُ مَشْيه، فقد يسقط وقد يتزلزل.
ومصدره العِثَار والعُثور، ثم استعمل في الظَفَر بشيء لم يكن مترقّبًا الظفَر به على سبيل الاستعارة.
وشاع ذلك حتّى صار كالحقيقة، فخصّوا في الاستعمال المعنى الحقيقي بأحد المصدرين وهو العِثار، وخصّوا المعنى المجازي بالمصدر الآخر، وهو العثور.
ومعنى {استَحقَّا إثمًا} ثبت أنّهما ارتكبا ما يأثمان به، فقد حقّ عليهما الإثم، أي وقع عليهما، فالسين والتاء للتأكيد.
والمراد بالإثم هو الذي تبرّءا منه في قوله: {لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله}.
فالإثم هو أحد هذين بأن يظهر أنّهما استبدلا بما استؤمنا عليه عوضًا لأنفسهما أو لغيرهما، أو بأن يظهر أنّهما كتما الشهادة، أي بعضها.
وحاصل الإثم أن يتّضح ما يقدح في صدقهما بموجب الثبوت. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن معنى الآية فإن عثر بعدما حلف الوصيان على أنهما استحقا إثمًا أي حنثًا في اليمين بكذب في قول أو خيانة في مال قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت فيحلفان بالله لقد ظهرنا على خيانة الذميين وكذبهما وتبديلهما وما اعتدينا في ذلك وما كذبنا.
وروي أنه لما نزلت الآية الأولى صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر ودعا بتميم وعدي فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنه لم يوجد منّا خيانة في هذا المال ولما حلفا خلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما وكتما الإناء مدة ثم ظهروا واختلفوا فقيل: وجد بمكة.
وقيل: لما طالت المدة أظهرا الإناء فبلغ ذلك بني سهم فطالبوهما فقالا كنا قد اشتريناه منه فقالوا ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئًا فقلتما لا؟ فقالا لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نعثر فكتمنا فرفعوا القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ} الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أبي رفاعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر فدفع الرسول صلى الله عليه وسلم الإناء إليهما وإلى أولياء الميت.
وكان تميم الداري يقول بعدما أسلم: صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى، وعن ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم تميم الداري فلما أسلم أخبر بذلك وقال: حلفت كاذبًا وأنا وصاحبي بعنا الإناء بألف وقسمنا الثمن.
ثم دفع خمسمائة درهم من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى ودفع الألف إلى موالي الميت. اهـ.
قال الفخر:
قوله: {فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} أي مقام الشاهدين اللذين هما من غير ملتهما وقوله: {مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الاوليان} المراد به موالي الميت، وقد أكثر الناس في أنه لم وصف موالي الميت بهذا الوصف، والأصح عندي فيه وجه واحد، وهو أنهم إنما وصفوا بذلك لأنه لما أخذ مالهم فقد استحق عليهم مالهم فإن من أخذ مال غيره فقد حاول أن يكون تعلقه بذلك المال مستعليًا على تعلق مالكه به فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليه ذلك المال. اهـ.

.قال الشوكاني:

قوله: {فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} أي فشاهدان آخران أو فحالفان آخران يقومان مقام اللذين عثر على أنهما استحقا إثمًا فيشهدان أو يحلفان على ما هو الحق، وليس المراد أنهما يقومان مقامهما في أداء الشهادة التي شهدها المستحقان للإثم. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {الأوليان} ففيه وجوه:
الأول: أن يكون خبر المبتدأ محذوف والتقدير: هما الأوليان وذلك لأنه لما قال: {فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} فكأنه قيل: ومن هما فقيل الأوليان: والثاني: أن يكون بدلًا من الضمير الذي في يقومان والتقدير فيقوم الأوليان، والثالث: أجاز الأخفش أن يكون قوله: {الاوليان} صفة لقوله: {فَآخَرَانِ} وذلك لأن النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة، كقوله تعالى: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] فمصباح نكرة قم قال: {المصباح} ثم قال في {زُجَاجَةٍ} ثم قال: {الزجاجة}، وهذا مثل قولك رأيت رجلًا، ثم يقول إنسان من الرجل، فصار بالعود إلى ذكره معرفة.
الرابع: يجوز أن يكون قوله: {الأوليان} بدلًا من قوله آخران، وإبدال المعرفة من النكرة كثير. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَآخَرَانِ} أي فرجلان آخران.
وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} والفاء جزائية وهي إحدى مصوغات الإبتداء بالنكرة.
ولا محذور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وصفته وهو قوله سبحانه: {مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان}، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أي فالشاهدان آخران، وجملة {يِقُومَانُ} صفته والجار والمجرور صفة أخرى؛ وجوز أبو البقاء أن يكون حالًا من ضمير {يِقُومَانُ}، وقيل: هو فاعل فعل محذوف أي فليشهد آخران وما بعده صفة له، وقيل: مبتدأ خبره الجار والمجرور، والجملة الفعلية صفته وضمير {مَقَامَهُمَا} في جميع هذه الأوجه مستحق للذين استحقا.
وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما هي بل هو مقام الحبس والتحليف، و{استحق} بالبناء للفاعل قراءة عاصم في رواية حفص عنه وبها قرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي رضي الله تعالى عنهم وفاعله {الأوليان}، والمراد من الموصول أهل الميت ومن الأوليين الأقربان إليه الوارثان له الأحقان بالشهادة لقربهما واطلاعهما وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام اللذين استحقا إثمًا إلا أنه أقيم المظهر مقام ضميرهما للتنبيه على وصفهما بهذا الوصف.
ومفعول {استحق} محذوف واختلفوا في تقديره فقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة ليظهروا بهما كذب الكاذبين، وقدره أبو البقاء وصيتهما، وقدره ابن عطية ما لهم وتركتهم.
وقال الإمام: إن المراد بالأوليان الوصيان اللذان ظهرت خيانتهما.
وسبب أولويتهما أن الميت عينهما للوصية فمعنى {استحق عَلَيْهِمُ الأوليان} خان في مالهم وجنى عليهم الوصيان اللذان عثر على خيانتهما.
وعلى هذا لا ضرورة إلى القول بحذف المفعول، وقرأ الجمهور {استحق عَلَيْهِمُ الأوليان} ببناء استحق للمفعول.
واختلفوا في مرجع ضميره والأكثرون أنه الإثم، والمراد من الموصول الورثة لأن استحقاق الإثم عليهم كناية عن الجناية عليهم ولا شك أن الذين جنى عليهم وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة، وقيل: إنه الإيصاء، وقيل: الوصية لتأويلها بما ذكر، وقيل: المال، وقيل: إن الفعل مسند إلى الجار والمجرور، وكذا اختلفوا في توجيه رفع {الأوليان} فقيل: إنه مبتدأ خبره آخران أي الأوليان بأمر بالميت آخران، وقيل: بالعكس، واعترض بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو مما اتفق على منعه في مثله، وقيل: خبر مبتدأ مقدر أي هما الآخران على الاستئناف البياني، وقيل: بدل من آخران، وقيل: عطف بيان عليه، ويلزمه عدم اتفاق البيان والمبين في التعريف والتنكير مع أنهما شرطوه فيه حتى من جوز تنكيره، نعم نقل عن نزر عدم الاشتراط، وقيل: هو بدل من فاعل {يِقُومَانُ}.
وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه حتى يلزم خلو تلك الجملة الواقعة خبرًا أو صفة عن الضمير، على أنه لو طرح وقام هذا مقامه كان من وضع الظاهر موضع الضمير فيكون رابطًا.
وقيل: هو صفة آخران، وفيه وصف النكرة بالمعرفة.
والأخفش أجازه هنا لأن النكرة بالوصف قربت من المعرفة.
قيل: وهذا على عكس:
ولقد أمر على اللئيم يسبني

فإنه يؤول فيه المعرفة بالنكرة وهذا أول فيه النكرة بالمعرفة أو جعلت في حكمها للوصف، ويمكن كما قال بعض المحققين أن يكون منه بأن يجعل الأوليان لعدم تعينهما كالنكرة.
وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل {استحق} والمراد على هذا استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة كما قال الزمخشري أو إثم الأوليين كما قيل وهو تثنية الأولى قلبت ألفه ياء عندها، وفي على في {عَلَيْهِمْ} أوجه الأول: أنها على بابها.
والثاني: أنها بمعنى في.
والثالث: أنها بمعنى من وفسر {استحق} بطلب الحق وبحق وغلب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فآخران} أي رجلان آخران، لأنّ وصف آخر يطلق على المغاير بالذات أو بالوصف مع المماثلة في الجنس المتحدّث عنه، والمتحدث عنه هنا {اثنان}.
فالمعنى فاثنان آخران يقومان مقامهما في إثبات الوصية.
ومعنى يقومان مقامهما، أي يعوّضان تلك الشهادة.
فإنّ المقام هو محلّ القيام، ثم يراد به محلّ عمل مّا، ولو لم يكن فيه قيام، ثم يراد به العمل الذي من شأنه أن يقع في محلّ يقوم فيه العامل، وذلك في العمل المهمّ.
قال تعالى: {إن كان كبُر عليكم مقامي وتذكيري} [يونس: 71].
فمقام الشاهدين هو إثبات الوصية.
و{من} في قوله: {من الذين استحقّ عليهم} تبعيضية، أي شخصان آخران يكونان من الجماعة من الذين استحق عليهم.
والاستحقاق كون الشيء حقيقًا بشيء آخر، فيتعدّى إلى المفعول بنفسه، كقوله: {استحقّا إثمًا}، وهو الشيء المستحق.
وإذا كان الاستحقاق عن نزاع يعدّى الفعل إلى المحقوق بـ {على} الدالّة على الاستعلا بمعنى اللزوم له وإن كره، كأنّهم ضمّنوه معنى وجَب كقوله تعالى: {حقيق على أن لا أقول على الله إلاّ الحق} [الأعراف: 105].
ويقال: استحقّ زيد على عمرو كذا، أي وجب لزيد حقّ على عمرو، فأخذه منه. اهـ.

.قال الفخر:

إنما وصفهما بأنهما أوليان لوجهين:
الأول: معنى الأوليان الأقربان إلى الميت.
الثاني: يجوز أن يكون المعنى الأوليان باليمين، والسبب فيه أن الوصيين قد ادعيا أن الميت باع الإناء الفضة فانتقل اليمين إلى موالي الميت، لأن الوصيين قد ادعيا أن مورثهما باع الإناء وهما أنكرا ذلك، فكان اليمين حقًا لهما، وهذا كما أن إنسانًا أقر لآخر بدين ثم ادعى أنه قضاه حكم برد اليمين إلى الذي ادعى الدين أولًا لأنه صار مدعى عليه أنه قد استوفاه. اهـ.
قال الفخر:
القراءة المشهورة للجمهور استحق بضم التاء وكسر الحاء، والأوليان تثنية الأولى، وقد ذكرنا وجهه وقراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر الأولين بالجمع، وهو نعت لجميع الورثة المذكورين في قوله: {مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ} وتقديره من الأولين الذين استحق عليهم مالهم وإنما قيل لهم الأولين من حيث كانوا أولين في الذكر، ألا ترى أنه قد تقدم {يِا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] وكذلك {اثنان ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة: 106] ذكرا في اللفظ قبل قوله: {أو آخران من غيركم} وقرأ حفص وحده بفتح التاء والحاء الأوليان على التثنية، ووجهه أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصاية ولما خانا في مال الورثة صح أن يقال إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان، وقرأ الحسن الأولان، ووجهه ظاهر مما تقدم. اهـ.